مشاركة الأطفال في القضايا التي تؤثر عليهم

عززت معايير حقوق الإنسان اعتبار الأطفال جهات فاعلة اجتماعية. وأشارت اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل الى الحاجة إلى منح الأطفال مجموعة من الحقوق لا تقتصر على الحماية، ووضع نصوص ترمي إلى تشجيعهم على التعبير عن آرائهم والمشاركة في القرارات المتعلقة بحياتهم (Fass, 2011). وهكذا، سعت اتفاقية حقوق الطفل الى تحقيق:

... التوازن بين اعتبار الطفل كمتلقي للرعاية يتطلّب من البالغين عدة أشكال من الخدمات والحماية، وبين حقوق الطفل في التصرف بشكل مستقل بصفته إنسان (Fass, 2011 p. 18).

تظهر إعادة تحديد موقع الطفل في المجتمع والنظرة إلى الطفولة في المبادئ الرئيسية الأربعة لاتفاقية حقوق الطفل بدءاً بمبدأ المشاركة (احترام آراء الطفل) الى جانب ثلاثة مبادئ أخرى، ولا سيما عدم التمييز والمساواة، مراعاة مصالح الطفل الفضلى كاعتبار أساسي، وحقّ الطفل في البقاء والنماء (Committee on the Rights of the Child, 2009). وتركز الاتفاقية على حماية الطفل في عدد من المواد، وتدرج مبدأ المشاركة في المادة 12. يشار إلى هذه المادة بشكل موجز بـ "حقّ الاستماع إليه" و"الحقّ في إشراكه" و"الحقّ في استشارته". ومع ذلك، فكل شكل من هذه الأشكال لا يفي بغرض إعطاء فكرة كاملة عن متطلّبات المادة (Lundy, 2007).

تمنح المادة 12 من الاتفاقية جميع الأطفال الحقّ في حرية التعبير عن آرائهم وفي أخذ رأيهم في الاعتبار عند اتخاذ قرارات في جميع المسائل التي تمسّهم. وتطلب من البالغين إيلاء آراء الطفل الاعتبار الواجب وفقاً لسنّ الطفل ونضجه عند تحديد مدى تأثير رأيه على القرار النهائي. فكلما زاد نضج الطفل وجب إعطاء رأيه وزناً أكبر على سبيل الاعتراف بـ "تطور قدراته". وهذا مفهوم أساسي آخر قدمته الاتفاقية. ومشاركة الأطفال في اتخاذ القرارات التي تؤثر عليهم ليست إلزامية إنما هي خيار يتخذه الطفل (Committee on the Rights of the Child, 2009, para. 16). ويجب أن يكون الأطفال قادرين على تحديد ما إذا كانوا سيشاركون ومدى هذه المشاركة.

على البالغين المكلّفين باتخاذ القرارات نيابةً عن الأطفال أن يسترشدوا بمبدأ تحقيق مصالح الطفل الفضلى (Committee on the Rights of the Child, 2013). ولا ينبغي أن يستند تحديد ما يشكل مصالح الطفل الفضلى بالكامل على رأي البالغبن. ينبغي التأكّد من رغبات الأطفال وجعلها جزءاً لا يتجزأ من عملية صُنع القرار وموازنتها مع عوامل أخرى بما فيها الحاجة إلى حماية الأطفال من الضرر (Archard and Skivenes, 2009). ولا ينبغي اعتبار الطفل غير ناضج أو غير مؤهل لمجرد اختلاف رأيه عن رأي البالغين. وإذا لزم اتخاذ البالغين لقرار مخالف لرغبات الطفل، وجب عليهم أن يشرحوا له سبب اتخاذ هذا القرار (Committee on the Rights of the Child, 2009).

وتتضمن اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة مادة قائمة بذاتها عن الأطفال ذوي الإعاقة (المادة 7) تورد إلى حد بعيد في فقرتها الثالثة مضمون المادة 12 من إتفاقية حقوق الطفل. وفي حين قد يصعب اكتشاف الاختلافات في معايير حقوق الإنسان المتعلقة بمشاركة الطفل بين اتفاقية حقوق الطفل واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (يمكن مراجعة Keravica, 2023  لمزيد من المعلومات)، من الجدير بالذكر أن إتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة أوجبت على البالغين منح الأطفال مساعدة ملائمة لنوع إعاقتهم وسنهم ليتمكنوا من التمتُّع بحقّ الاستماع إليهم بالفعل.

على الرغم من أن الحقّ في العيش المستقل والاندماج في المجتمع المنصوص عليه في المادة 19 من إتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة مرتبط عادة بمفهوم تقرير المصير وبمستوى الاستقلال الذاتي الذي لا يحقّ إلا للبالغين الحصول عليهما، أقرت اللجنة المعنية بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في تعليقها العام رقم 5 بأهمية مشاركة الأطفال ذوي الإعاقة مشيرةً إلى ما يلي: "ويتّسم بالأهمية أيضاً احترام القدرات المتطورة للأطفال ذوي الإعاقة، ودعمهم في إبداء آرائهم بشأن الاختيارات التي تخصّهم" (Committee on the Rights of Persons with Disabilities, 2017, para. 75). وأكدت اللجنة على أهمية احترام القدرات المتنامية للأطفال في تعليقها العام رقم 1 حول الأهلية القانونية عن طريق تحديد إلتزام الدول "بضمان إحترام إرادة الأطفال ذوي الإعاقة وأفضلياتهم على قدم المساواة مع الأطفال الآخرين" (Committee on the Rights of Persons with Disabilities, 2014, para. 36).  

ويترتب على التعليقات العامة للجنة أن حقّ الأطفال ذوي الإعاقة في إبداء رأيهم في القرارات التي تعنيهم، بما في ذلك مجال الرعاية الصحية، ليس لعبةً إما يكسب فيها الطفل كل شيء أو لا يكسب أي شيء. وفي حين لا يُخوّل للأطفال ذوي الإعاقة التمتُّع بالأهلية القانونية الكاملة نفسها التي يتمتع بها البالغون، يتضمن حقّ الأطفال ذوي الإعاقة في العيش المستقل درجة معينة من حرية الاختيار والتحكُّم بحياتهم، يضمنها لهم "الحق في الاستماع إليهم". وفي الواقع، كلما ازدادت استشارة الأطفال ومشاركتهم في القرارات المهمة التي تعنيهم، تطورت قدراتهم وزادت خبرتهم (Lansdown, 2005). وتشكِّل الفرص المتاحة للطفل للتعبير عن آرائه والمشاركة بفعالية في تحديد مصالحه الفضلى الأساس لزيادة مستويات استقلالهم الذاتي. ومن أجل التنفيذ التام لحقّ العيش المستقل، ينبغي أن تتخذ الدول الأطراف إجراءات إضافية إلى تلك التي تستهدف البالغين ذوي الإعاقة، كما ينبغي إيلاء الاهتمام الواجب لآراء الأطفال ذوي الإعاقة أثناء طفولتهم.

وتبحث الأقسام التالية في حقوق مشاركة الأطفال ذوي الإعاقة في قرارات الرعاية الصحية الفردية، وهي محور هذه الدراسة البحثية.

مشاركة الأطفال ذوي الإعاقة في القرارات المتعلقة برعايتهم الصحية

الأطفال ذوو الإعاقة أكثر عرضة لتلقي الرعاية الطبية من الأطفال من غير ذوي الإعاقة. وتتضمن الرعاية الصحية خدمات عامة وأخرى متخصصة، وقضاء قدر كبير من الوقت في المستشفيات وبرامج إعادة التأهيل (Bricher and Darbyshire, 2005; Kuper et al., 2014). نظراً لاعتبار الإعاقة مشكلةً تعطِّل نمو الطفل، غالباً ما تتخلّل طفولة ذوي الإعاقة أشكالاً مختلفة من العلاجات والعمليات الجراحية التي تسعى الى استعادة وظائف الجسم أو تخفيف آثار الإعاقة (Priestley et al., 1999; Mclaughlin and Coleman-Fountain, 2014; McLaughlin, 2017).

يدعم النموذج الاجتماعي للإعاقة باعتباره "فكرة شاملة" لحركة ذوي الإعاقة دراسات الإعاقة وفلسفة العيش المستقل (Oliver and Barnes, 2012). ويركز النموذج على تحليل بيئة الإعاقة وتحديد موقع المشكلة بشكل مباشر في المجتمع وعلاجها. وفي حين لم ينكر مفكرو النموذج الاجتماعي أن التدخلات الطبية يمكن أن تكون مفيدة لتحقيق الإستقرار في الحالات الأولية (Oliver, 1996, p. 36)، هناك قلقٌ عام بشأن فكرة استخدام قوة الطب لتصحيح الإعاقات. ويؤكد أوليفر "تعرّض الكثير من الأشخاص ذوي الإعاقة الى الكثير من التدخلات الطبية التي كانت في أفضل أحوالها غير مناسبة وفي أسوأ أحوالها قمعية" (Oliver, 1996, p. 36).

ومع ذلك، لا يزال السؤال مطروحاً حول ما يعتبر التدخل الطبي المناسب. وغالباً ما يشار إلى أنّ التدخلات الطبية المناسبة هي تلك التي يوافق عليها الأشخاص ذوي الإعاقة بحرية. لكن غالباً ما يحظر على الأطفال ذوي الإعاقة اتخاذ مثل هذه القرارات إذ يقرر ذووهم وأخصائيو الرعاية الصحية ما هي مصلحة الطفل الفضلى (Elliston, 2007). واعتبرت الإعاقة بشكل لا يحتمل الشك سلبية وضارة للطفل، فهناك مساحة صغيرة جداً للطعن في القرارات بمتابعة العلاجات التي تَعِدُ بـ "تصحيح" الإعاقة (Nelson et al., 2012). وثقت أبحاث سابقة ان وجود حالة إعاقة لدى الطفل يسبب عدم ارتياح لدى الوالدين، فتكون استجابتهم الرئيسية بالبحث عن حل طبي للحد من الإعاقة (Nelson et al., 2012). وحتى عندما لا يستطيع الطب القضاء على الإعاقة كلياً، قد يشعر الوالدان بحاجة ملحة الى اتخاذ أي تدبير، متأثرين بالتصورات الاجتماعية للحالات السويّة (Parens, 2006). وهذا الدافع القوي الى بذل كل ما بوسع الوالدين لتقريب طفلهم قدر المستطاع من نموذج "الحالة السوية" قد يجعلهم يتَّبِعون علاجات إختيارية تشكل مخاطر وتوحي بعدم اليقين (Nelson et al., 2012). وقد يؤدي شعور الوالدين بالواجب الأخلاقي "لاتخاذ أي تدبير" بأي وسيلة الى تقليل المساحة المتاحة للأطفال للتعبير عن آرائهم والأخذ بها بجدية.

أُركزُ في بحثي على الجراحات الاختيارية المتعلقة بتقويم عظام الأطفال وعلى مشاركة الأطفال ذوي الإعاقة في عمليات اتخاذ القرار المتعلق بالعلاج. وقد سمح لي هذا التركيز بالتعاطي مع أطفال ذوي إعاقات مختلفة خضعوا لعلاجات تقويم العظام. والمعنى الحرفي لـ"جراحة العظام" في اليونانية (orthopaedics) هو "تصحيح الطفل" أو "الطفل السوي". ويوضح هذا المعنى مدى تأثّر هذه العلاجات بأيديولوجية الحالات السوية (Shakespeare and Watson, 1998).

ليس في نيتي أن أسأل في هذه الورقة البحثية عما إذا كانت التدخلات الطبية التي خضع لها الأطفال والشباب الذين شاركوا في البحث مبرَّرة أم لا. وفي الواقع، قال العديد من الأطفال والشباب من ذوي الإعاقة الذين أُجريت معهم مقابلة أنهم استفادوا من عمليات جراحة العظام التي أجروها، كتخفيف حدة الألم وتحسين طريقة المشي أو الوضعية، والشعور براحة أكبرعند مشاركتهم في أنشطتهم المفضّلة.

على الرغم من الفوائد التي حققتها التدخلات الطبية المرتبطة بالإعاقة، قد تؤدي قرارات اللجوء إليها إلى نتائج لم تكن في الحسبان. وفي الواقع، يساهم الطب، من خلال تفضيل الحالات الطبيعية ومعاملة جميع الحالات التي تنحرف عن معايير النمو النموذجي كحالات مرضيّة، في إفهام الأهل والأطفال أن الإعاقة حالة غير طبيعية (Cooper, 2013). ويحذر واطسون وشكسبير من أنّ الدخول المتكرر إلى المستشفى والتعرُّض الدائم لعلاجات تصحيحية قد يؤدي إلى شعور داخلي بالقمع لدى الأطفال وإلى كراهية الذات (Watson and Shakespeare 1998, p. 20).

أعتَبِرُ أن عملية جراحة العظام المرتبطة بشكل من أشكال الإعاقة هي ممارسة مادية ترتكز إلى بعض الأدلّة تتخللها معضلات أخلاقية عديدة وقيم ومعاني يوليها الناس للإعاقة وللتعايش معها. تعتمد الإستنتاجات التي أُقدِمُها في هذه الورقة البحثية على مقاطع من مقابلات أجريتُها مع أطفال وشباب من ذوي الإعاقة ومع أهلهم، تمحورت حول فهمهم للإعاقة وللدوافع التي قادت بهم إلى اللجوء إلى تدخلات طبية. وأؤكدُ أن تلك المفاهيم حددَتها إلى حد كبير اللقاءات مع أخصائيي الرعاية الصحية، ووعود (غير) مثبتة بشفاء أو تصحيح طبي.

وسأقدّمُ في المقطع التالي أربعة مواضيع ذات صلة بقدرة الأطفال ذوي الإعاقة على العيش المستقل، وهي: فهم الاستقلالية، وتصوّرالإعاقة على أنها اختلاف سلبي، ومعاملة الأطفال ذوي الإعاقة على أنهم مرضى، وإحباطهم في اللقاءات مع أخصائيي الرعاية الصحية.