جدول المحتويات:
باء. أسئلة وأجوبة
س11. هل صحيح أن تعزيز العيش المستقل والتحوّل من الإيواء إلى الدمج المجتمعي لا يمكن أن يتحقق ولا يستمر تطبيقه في حالات الطوارئ والكوارث والأزمات؟
ج11. الحقيقة أن هذا الاعتقاد خاطئ ويرتب آثاراً سلبيةً أولها تكريس مبررِّات الإيواء المجافية لحقوق الإنسان والمنطق والممارسة العملية. ويمكن تفنيد ذلك كله على النحو الآتي:
- كانت وما تزال حجة "توفير البيئات الآمنة" للأشخاص ذوي الإعاقة والأطفال فاقدي السند الأسري وكبار السن هي المحرك الرئيس لنشاط المنظومة الإيوائية والمبرِّر الذي يحتج به القائمون عليها. وفي حالات الطوارئ والأزمات، تكتسب هذه الحجة زخماً أكبر عن طريق الآراء والمعلومات المضلّلة التي يطلقها المؤمنون بها، إذ ينشطون في نشر فكرة أن الظرف الطارئ والأزمة تجعل الفئات الأكثر عرضةً للخطر في خطر أكبر، لذلك "فإن المؤسسات الإيوائية تعتبر هي المكان المثالي لضمان حمايتهم وأمنهم الشخصي". ومع التسليم بأن الأشخاص ذوي الإعاقة يجب أن يكونوا في بؤرة الاهتمام وعلى رأس سلّم الأولويات في حالات الطوارئ والأزمات، إلا أن هذا لا يعني بأي حال الاستمرار في إيداعهم في المؤسسات الإيوائية حتى في ظل هذه الظروف، بل الأوْلَى تهيئة وتطويع خدمات الطوارئ والإنقاذ والإخلاء والإغاثة بمختلف أنواعها لتستوعب متطلبات وصول الأشخاص ذوي الإعاقة إليها والاستفادة منها. وقد أثبتت التجربة العملية أن أول من يتأثر بالأزمات والظرف الطارئ هم الملتحقون بالمؤسسات الإيوائية، ولعل في ما حلّ بكثير من هؤلاء مع بداية جائحة كوفيد-19؛ خصوصاً الأشخاص ذوي الإعاقة منهم[1] دليل قاطع على صحة هذا الأمر، حيث كانت تلك المؤسسات بمختلف أنواعها والسجون وسائر البيئات المغلقة المنعزلة بمثابة بؤر لتفشي الوباء بين الأفراد المقيمين والعاملين فيها. والأمر نفسه في حالات الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات وغيرها، إذ يستعصي تماماً التعامل مع حالات إنقاذ عشرات المقيمين المتجمعين في مساحة محدَّدة خصوصاً أن كلّاً منهم له متطلبات مختلفة للإنقاذ والإسعاف والإخلاء. أما لو كان الأشخاص ذوو الإعاقة يعيشون ضمن المجتمع والأسرة في بيئة تلبي متطلبات الجميع، لكانت عملية تعاملهم مع الحالات الطارئة والأزمات أكثر سهولة وأمان، حيث خطط وخدمات الطوارئ دامجة وشاملة، والمسانَدة من الأسرة والمجتمع المحيط تمثِّل الضمانة الأقوى لمواجهة هكذا ظروف[2]؛
- يجب ألا تكون الحالات الطارئة ولا الأزمات مبرِّراً لتعليق عملية تفكيك الإيواء، ذلك أن بعض الدول يلتبس عليها ترتيب الأولويات وقد ترى أن تفكيك الإيواء من المسائل التي ينبغي تأجيلها لما بعد الأزمة أو الظرف الطارئ. وحقيقة الأمر أنه وكما ذكر آنفاً؛ يعتبر التحوّل من الإيواء إلى الدمج المجتمعي والعيش المستقل من الضروريات واجبة الإنفاذ حتى خلال الظروف الطارئة التي هي مدعاة لتعزيز العيش المستقل الذي يعضد من تماسك المجتمع ومآزرة أفراده لبعضهم البعض. كما أنه ينبغي الالتفات إلى أن الرقابة على المؤسسات الإيوائية خلال الكوارث والأزمات تتراجع إلى حدّ كبير حيث أجهزة الدولة منشغلة بتقديم خدمات الطوارئ والإنقاذ، مما يجعل احتمال ارتكاب أعمال عنف وانتهاك لحقوق الملتحقين بتلك المؤسسات أكبر وبعواقب أخطر؛
- يتطلب تفكيك الإيواء والتحوّل للعيش المستقل إذن في هذا السياق وبالإضافة إلى مراجعة خطط مواجهة الأزمات والكوارث وخدمات الطوارئ لتصبح دامجةً ومستوعبةً لمتطلبات الأشخاص ذوي الإعاقة؛ تدريب الناجين من المؤسسات الإيوائية وأسرهم ومنظمات المجتمع المحلي ذات العلاقة على مهارات الإسعافات الأولية وطلب المساعدة وتقديمها. هذا بالإضافة إلى ضرورة أن تكون المعلومات والبيانات والإرشادات في مثل تلك الظروف متوفرة دائماً بأشكال ميسَّرة سواءً كانت لغة الإشارة أو الوصف الصوتي أو طريقة بريل أو حروف الطباعة الكبيرة أو اللغة سهلة القراءة.
س12. كيف يمكن الرد على المخاوف المستمرة والحجج التي يطرحها المشككون في إمكانية وفعالية العيش المستقل وتفكيك منظومات الإيواء للأشخاص ذوي الإعاقة؟
ج12. يستوجب الرد على حجج المشككين في تحقيق العيش المستقل بفعالية وإنهاء الإيواء مناقشة عدد من الخرافات الرائجة[3] التي تجعلهم يرتابون في واقعية هاتين المسألتين، وذلك على النحو الآتي:
- الاعتقاد "أن الأشخاص ذوي الإعاقة هم بحاجة حتمية إلى رعاية ومساعدة تَحُوْلان دون إمكانية عيشهم باستقلال مثل الآخرين". وهذا الظنّ والتفكير النمطي يجافيان المنطق والواقع من ناحيتين: من ناحية، لم يقل أحد أن العيش المستقل يعني أن الشخص سواء كان لديه إعاقة أم لا، سوف يكون مستغنياً تماماً عن خدمات الدعم والرعاية، فكل شخص على وجه الأرض يحتاج في منحى أو أكثر من مناحي حياته إلى دعم ومسانَدة ليتمكن من ممارسة نشاطات حياته اليومية والتمتُّع بحقوقه وحرياته، من دون أن يقدح ذلك في استقلاليته الفردية وخصوصيته. والأشخاص ذوو الإعاقة هم مثل غيرهم في هذا السياق، قد يحتاج بعضهم لخدمة مساندة أو داعمة أو أكثر مع بقاء حقهم قائماً في العيش أينما يقررون ومع من يريدون[4].
ومن ناحية أخرى، إن الحكم المسبق بأن الأشخاص ذوي الإعاقة جميعهم بحاجة دائمة لرعاية الغير ومساعدتهم؛ إنما مبعثه تفكير نمطي نابع من النموذج الطبي والمقاربة الرعائية الوصائية التي أشرنا إليها آنفاً. فالأشخاص ذوو الإعاقة لديهم كما غيرهم فروقات فردية ومتطلبات متنوّعة ومتفاوتة، وهذا لا ينسحب على الإعاقات المختلفة فحسب بل على الأشخاص الذين لديهم الإعاقة نفسها، فالأشخاص ذوو الإعاقة الذهنية المتوسطة أو الشديدة على سبيل المثال، تختلف متطلباتهم في ما بينهم بحسب ما تلقاه كل منهم من برامج تأهيل وتدريب ومستوى توفُّر الترتيبات التيسيرية وما وصل إليه الشخص وحصل عليه من تعليم ومعرفة وغير ذلك من الظروف التي لكل منها أثره على الشخص وبيئته المحيطة. ناهيك طبعاً عن اختلاف المتطلبات بحسب اختلاف طبيعة الإعاقة ونوعها ودرجتها، فما يحتاجه الكفيف في عيشه المستقل يختلف عمّا يحتاجه ضعيف البصر وما يحتاجه كلاهما يختلف عمّا يحتاجه الشخص الأصم وكذلك بالنسبة لضعيف السمع الذي يحتاج ترتيبات أخرى، وهكذا، تماماً مثل الاختلاف بين الأفراد من غير ذوي الإعاقة بحسب نشأتهم وميولهم وتعليمهم وتأهيلهم وثقافتهم؛ - "إن العيش في مؤسسات إيوائية وكذلك تلقي خدمات التأهيل والتعليم في مدارس ومراكز خاصة منعزلة؛ يوفِّر مساحةً من الحماية والأمان للأشخاص ذوي الإعاقة ويقيهم خطر الاعتداءات والتنمر من محيطهم المجتمعي". والواقع أن هذه الحجة التي تعكس تجذُّر الاتجاهات السلبية النمطية التي تعيق في كثير من الأحيان وتيرة تفكيك المنظومة الإيوائية[5]، تعبِّر عن اتجاه لا يستهان به في كثير من دول العالم يقاوم مسألة التحوّل من الإيواء إلى الدمج المجتمعي والعيش المستقل لأسباب مختلفة تتقاطع فيها المصلحة الرامية للمحافظة على مكاسب مالية ووظيفية تحقَّقت للقائمين على منظومة الإيواء على مدار سنوات طويلة[6]. على كل حال، فإن التاريخ والواقع يقطعان بأن المؤسسات الإيوائية لم تكن يوماً مكاناً آمناً للمقيمين فيها، بل على العكس، فإن العزلة والانفصال عن المجتمع المحيط يغذي ممارسات العنف بأشكاله المختلفة، الأمر الذي ظهر في العديد من التقارير الاستقصائية والتحقيقات القضائية التي كشفت عن اعتداءات مؤلمة ضد الأشخاص ذوي الإعاقة على يد مقدِّمي الرعاية في تلك المؤسسات. وفي المقابل، فإن العيش في المحيط المجتمعي والأسري يوفِّر أماناً وحماية للشخص ضد الانتهاكات، مع عدم إغفال أن البيئة الأسرية ليست بالضرورة دائماً مثالية لا للأشخاص ذوي الإعاقة ولا لغيرهم، إذ كثيراً ما تقع حالات عنف أسري ويكون الأشخاص ذوو الإعاقة من بين ضحاياها، لذلك نُعيد التأكيد على أن التقييم والمسح المعمَّق والشامل لكل حالة على حدة يراد نقلها من الإيواء إلى الأسرة أو العيش بمنزل مستقل يعتبر جوهرياً في هذا المقام، وكذلك فإن اتخاذ القرار بشأن البديل المناسب يجب أن يكون دائماً وفقاً لما يختاره ويقرره الشخص نفسه بعد أن تقدَّم له خدمة دعم اتخاذ القرار إذا كانت لازمة؛
- "الخدمات الإيوائية أقل كلفةً ولا تحتاج لموارد مالية كبيرة مثل العيش المستقل". بدايةً يجب التأكيد على أن انخفاض الكلفة المالية لممارسة تنتهك حقوق الإنسان لا يمكن أن يكون سبباً لمشروعيتها وقبولها، وكذلك الأمر لا يمكن الاحتجاج بارتفاع كلفة أي تدبير يكفل التمتُّع بالحقوق والحريات وممارستها على أساس من المساواة مع الآخرين. ومع ذلك، فإن هذه الحجة ثبت عدم دقتها بالدليل العلمي والعملي. إذ تشير الدراسات والمسوحات الموثوقة[7] إلى أن كلفة الإيواء أعلى بكثير على المدى القصير والمتوسط والبعيد من كلفة العيش المستقل. فبالإضافة إلى الكلفة التشغيلية المرتفعة للمؤسسات الإيوائية التي تشمل المباني والصيانة والأثاث والوقود والمياه والانتقال والطعام والملبس وأجور العاملين، فإن خدمات التأهيل والعلاج والترفيه والتدريب ذات كلفة مالية مرتفعة إذا ما توفَّرت بجودة معقولة، وهنا يجب الالتفات إلى أن الخدمات الإيوائية بوضعها الراهن تُعَدُّ منخفضة الجودة إلى حدّ كبير في معظم الدول التي تقدِّمها، ومع ذلك فإنها تستهلك موارد مالية تفوق ما تتطلبه تدابير العيش المستقل[8]. هذا على المدى القصير، أما على المديين المتوسط والطويل، فإن تفاقم الإعاقات للملتحقين بالمؤسسات الإيوائية بسبب البيئة المقيّدة وكذلك تراجع حالتهم النفسية والذهنية، سوف يخلق احتياجات صحية وتأهيلية أعقد وأكثر كلفة. بينما تؤكد الدراسات والمسوحات المتخصِّصة أن العيش المستقل وبالإضافة إلى كونه تجسيداً للحق الطبيعي للشخص في العيش ضمن بيئته المجتمعية والأسرية، فإنه في حقيقة الأمر لا يتطلب تكاليف مرتفعة كما هو الحال في الخدمات الإيوائية. فتهيئة الخدمات المحيطة سواء كانت وسائل النقل أو المرافق والطرقات أو التعليم تعتبر استثماراً في عموم المجتمع ولمصلحته إذ يستفيد منها جميع أفراده وليس فقط الأشخاص ذوو الإعاقة. أما بخصوص كلفة بعض
الخدمات المسانِدة مثل المُرافق الشخصي والخدمات المنزلية، فهي من ناحية تقدَّر من حيث الكم والكيف بحسب احتياج كل شخص، ومن ناحية أخرى فإنها لن تكون بمقدار ما ينفق على الأجور والمكفاءات للعاملين بدوام كامل في المؤسسات الإيوائية؛ - "تفكيك الإيواء سوف يفضي إلى أزمة بطالة حيث سيجد العاملون والعاملات في المؤسسات الإيوائية أنفسهم من دون عمل". في الواقع تفكيك الإيواء لا يعني الاستغناء عمّن يعملون فيه والتخلي عنهم، إذ إن التحوّل إلى العيش المستقل وما يتطلبه من خدمات مبنية على المجتمع يحتاج لعدد من الكوادر لتفعيل منظومة الخدمات هذه وجعلها مهيأة للأشخاص ذوي الإعاقة، ولا بأس من أن يكون للعاملين والعاملات في المؤسسات الإيوائية المفكَّكة ممن لديهم إيمان بالدمج والخبرة الكافية دور في تعزيز منظومة خدمات العيش المستقل، من دون أن يتولوا قيادة عملية تفكيك الإيواء نفسها منعاً لتعارُض المصالح وتجنباً لأي تأثير غير مقصود للخبرة الطويلة في الإيواء على طبيعة البدائل المقترحة؛
- "التخلي عن المؤسسات الإيوائية واستبدالها بمنظومة خدمات مجتمعية تُعتبر ممارسة تصلح في الدول التي لديها موارد مالية ضخمة ولدى مجتمعاتها حد معقول من تقبُّل الآخر واحترام التنوّع". هذه الحجة هي الركيزة التي يعوِّل عليها التيار المناهض للإيواء خصوصاً في الدول النامية للتشكيك في أي مبادرة لتحويل منظومة الإيواء إلى منظومة دامجة. وحقيقة الأمر أن هذه الحجة تغفل تماماً أن الدول التي يقال أن محدودية الموارد المالية فيها تَحُول دون التحوّل إلى العيش المستقل؛ تنفق أصلاً مبالغ طائلة على المؤسسات الإيوائية وعلى تشديد الرقابة عليها في أعقاب كل حادثة عنف أو اعتداء مكتشَف، كما أن المتعللون بهذه الحجة يسقطون من حساباتهم الفاعلية الاقتصادية للدمج والعيش المستقل على المديين المتوسط والطويل على نحو ما استعرضناه آنفاً. أما ما يتعلق بالوعي المجتمعي وتقبُّل الإعاقة بوصفها شكلاً من أشكال التنوّع والاختلاف وأثر ذلك على تحقيق الدمج والعيش المستقل، فإن هذه المسألة صحيحة لكنها في مقامنا هذا تتحقق عن طريق أسلوب التعلُّم عبر التطبيق، إذ لا يمكن انتظار حدوث تغيير شامل وكامل في الاتجاهات والأفكار في عموم المجتمع لأن هذه المسألة مستمرة وتحتاج لعمل دؤوب، لذلك فإن نشر الوعي والمعرفة وتغيير المفاهيم والمنظومة القيمية ينبغي أن تسير جنباً إلى جنب مع تطبيق التحوّل من الإيواء إلى الدمج، وهذا ما فعلته وتفعله الدول التي حقَّقت نتائج في هذا الصدد ممن يستشهد بها أصحاب هذا التيار. وأخيراً وليس آخراً، فإن التجربة تثبت أن عدداً من الدول ذات الموارد المحدودة نجحت في تفكيك منظومة الإيواء لديها وتأسيس منظومة متماسكة ومستقرة من الخدمات المبنية على المجتمع التي ساهمت في ترسيخ العيش المستقل.
[1] Martin Knapp, Eva Cyhlarova, Adelina Comas-Herrera, Klara Lorenz-Dant. Crystallising the Case for Deinstitutionalisation: COVID-19 and the Experiences of Persons with Disabilities. THE LONDON SCHOOL OF ECONOMICS AND POLITICAL SCIENCE. Care Policy and Evaluation Centre. London School of Economics and Political Science, UK. May 2021. Available at https://www.lse.ac.uk/cpec/assets/documents/CPEC-Covid-Desinstitutionalisation.pdf.
[2] IBID: Guidelines on deinstitutionalization, including in emergencies.
[3] Myths buster independent living. European Network on Independent Living. December 2014. Available at https://enil.eu/wp-content/uploads/2022/03/Myths-Buster-final-spread-A3-WEB.pdf.
[4] IBID. Myths buster independent living.
[5] From institutions to community living for persons with disabilities: perspectives from the ground. Luxembourg: Publications Office of the European Union. 2018 Available at: https://fra.europa.eu/sites/default/files/fra_uploads/fra-2018-from-institutions-to-community-living-ground-perspectives_en.pdf.
[6] IBID: From institutions to community living for persons with disabilities: perspectives from the ground.
[7] Comparing the Cost of Independent Living and Residential Care. A Survey by the European Network on Independent Living. Available at: https://enil.eu/wp-content/uploads/2022/03/Cost-survey_FINAL1.pdf.
[8] IBID: Comparing the Cost of Independent Living and Residential Care. A Survey by the European Network on Independent Living.