مقدمة

يواجه الأشخاص ذوو الإعاقة في كل يوم ممارسات إقصائية تحرمهم من طيف واسع من حقوقهم المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية أو بالحد الأدنى تقيِّد تمتُّعهم بها وممارستهم لها، وهذه المسلكيات أو الممارسات الإقصائية مردها في غالب الأحيان مفاهيمي تمييزي منبثق عن تبني نظرة طبية نمطية للإعاقة تغفل الهوية الشخصية للفرد والبُعد البيئي الذي يؤدّي دوراً رئيسياً في نشأة حالة الإعاقة واستمرارها وتفاقمها. ولعل هذا النَّهج يفسر رواج نوع من التعاطي الوصائي مع الأشخاص ذوي الإعاقة من قِبل أسرهم والمجتمع وأجهزة الدولة ذات الصلة، حيث يُنظر إلى الأشخاص ذوي الإعاقة على أنهم في حالة من الضعف الدائم وإن تفاوتت دراجاته من وجهة نظر هؤلاء، الأمر الذي يستتبع فرض الرعاية عليهم وليس كفالتها لهم، لينتهي الأمر بوصاية كاملة تحدّ إن لم تسلبهم حرية الاختيار واتخاذ القرار في أدق شؤونهم.

وإن هذا المسلك الإقصائي الذي لا يختلف أثره السلبي سواءً كان مقصوداً أو غير مقصود، هو ركيزة ومسوغ حرمان الأشخاص ذوي الإعاقة من حزمة لا يستهان بها من حقوقهم وحرياتهم الأساسية، وفي طليعة ذلك حقهم في العيش المستقل والاندماج في المجتمع. وقد أولت اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة اهتماماً كبيراً لهذا الحق بضغط وجهد كبيرين من منظمات وتحالفات الأشخاص ذوي الإعاقة حول العالم، فجاءت الاتفاقية بمبادئ عامة وأحكام تفصيلية تعزِّز من هذا الحق وتفرض على الدول الأطراف اتخاذ إجراءات تصحيحية لإنهاء الممارسات المؤسسية والفردية كافةً التي تحدّ من التمتُّع به وممارسته على أساس المساواة مع الآخرين.

وبالإضافة إلى ما تضمنته المادة (3) من الاتفاقية من مبادئ عامة يتصدرها احترام الكرامة والاستقلالية الفردية والحق في الاختيار وتقرير المصير والدمج في مختلف مناحي الحياة، جاءت المادة (4) لتقطع بضرورة تعديل أي تشريع يكرِّس أي شكلٍ من أشكال التمييز، وكذلك القضاء على أي ممارسات من شأنها إقصاء الأشخاص ذوي الإعاقة. وفي الاتجاه نفسه، أرست المادة (5) من الاتفاقية ركيزة عدم التمييز بوصفه مبدأً متقاطعاً مع سائر النصوص والأحكام ينسحب على التشريعات والممارسات كافة.

وحينما تُقرأ هذه المبادئ والالتزامات العامة مع نص الاتفاقية في المادة (19) منها المتعلقة بالعيش المستقل والدمج في المجتمع، فإن مقصد المشرِّع الدولي يتجلى في توخّيه ضمان الاستقلالية والخصوصية وممارسة الأهلية القانونية بحدها الأقصى للأشخاص ذوي الإعاقة من دون وصاية من أي فرد أو مؤسسة وتحت أي ذريعة كانت.

ولقد شكلت منظومة الإيواء وما تزال أحد أبرز الانتهاكات لحق الأشخاص ذوي الإعاقة في العيش المستقل وما يرتبط به من حقوق وحريات أساسية أخرى مثل الحق في اتخاذ القرار وحرية الاختيار والحق في الدمج في الأسرة والمجتمع والحق في الوصول إلى الخدمات والحصول عليها على أساس المساواة مع الآخرين والحق في السلامة والأمن والتنقُّل والتكامل الجسدي والنفسي وغيره، الأمر الذي حفَّز حراكاً واسعاً حول العالم لمناهضة الإيواء وترسيخ العيش المستقل مفهوماً وممارسة. وفي الوقت الذي قطعت فيه بعض الدول شوطاً معقولاً في إنهاء المنظومة الإيوائية وتعزيز العيش المستقل، لا تزال دول عديدة تشرِّع الإيواء في قوانينها وتجد له مبرّرات مرتكِزةً بطبيعة الحال على النموذج الطبي والنظرة الرعائية على نحو ما سبق ذكره.

ولما كانت مسألة الاعتراف بحق الأشخاص ذوي الإعاقة في الاختيار واتخاذ القرار والعيش المستقل ليست مما يمكن قبوله أو رفضه أو المفاوضة حوله، حيث أن الدولة الطرف في الاتفاقية أقرّت بما لها من إرادة وسيادة بالتزامها بكل ما جاء فيها وأصبحت الاتفاقية بمجرد المصادقة عليها ونشرها في الجريدة الرسمية جزءاً أصيلاً من منظومة التشريع الوطني، بحيث تعدِّل كل قانون أو نظام أو لائحة أو تعليمات أو قرارات تتعارض مع أي من مبادئها أو أحكامها التفصيلية، فإن العمل على إنفاذ المادة (19) من الاتفاقية وما يرتبط بها من أحكام يعتبر التزاماً قائماً ومحل رصد ومساءلة من جانب الأشخاص ذوي الإعاقة ومنظماتهم ولجنة الاتفاقية وفقاً لآليات مراجعة التقارير ومناقشتها.

والواقع أن التحوّل من العزلة والإيواء إلى الدمج المجتمعي والعيش المستقل هي مسألة ولا ريب تتطلب خططاً وخطوات مدروسة بعناية، إذ أن تغيير واقع مؤسسي وسلوكي تراكَم لعقود طويلة، يحتاج لجهد دؤوب وعمل تشاركي يفضي إلى نتائج مضمونة تحقِّق الغاية المرجوة، وهي أن يعيش الجميع ويتعايشون في بيئة دامجة وحاضنة ومستوعبة لمتطلبات الاختلاف الفردي والتنوّع بين البشر.

الغاية

يسعى هذا الدليل إلى تقديم معلومات ومبادئ توجيهية مبسّطة تساهم في الإنفاذ السريع والفعّال للمادة (19) من الاتفاقية، وذلك عن طريق استعراض وتحليل النصوص القانونية ذات العلاقة والأدبيات ذات الصلة والممارسات النموذجية من بعض الدول. ويرشد صانع القرار إلى بعض الخطوات التي إذا قام بها فإنها سوف تساهم في تحقيق تحوّل ملموس نحو الخدمات المجتمعية الدامجة عوضاً عن الخدمات الإيوائية. ويزود أيضاً وبشكل تفصيلي منظمات المجتمع المدني وبصفة خاصة منظمات الأشخاص ذوي الإعاقة بخطوات فعّالة بشأن تنظيم حملات المناصَرة على المستوى الوطني وتنفيذ نشاطات ضاغطة عن طريق الجهات المانحة، وكذلك عن طريق التوظيف الفعّال لآلية كتابة تقارير الظل وغيرها من تقارير الرصد للجنة الاتفاقية، من أجل تفكيك المنظومات الإيوائية وسائر البيئات العازلة وتعزيز الخدمات المجتمعية بمختلف أنواعها وتوفيرها بأشكال ميسَّرة وتحقيق التمتُّع والممارسة الكاملتين للحق في العيش المستقل، وذلك كله عن طريق طرح أسئلة محورية والإجابة عليها بالتحليل والدليل، وكذلك إشراك المتدربين والمتدربات بنشاطات تفاعلية مختلفة.

الفئات المستهدَفة

يتوجه هذا الدليل بالدرجة الأولى إلى منظمات الأشخاص ذوي الإعاقة والأفراد الناشطين والناشطات منهم بما يمكنهم من استخدام المحتوى المعرفي والتوجيهات العملية الواردة فيه لفهم طبيعة وعناصر العيش المستقل كما نصَّت عليه الاتفاقية ولتطوير أدوات المناصَرة ورفع الوعي بما يكفل ممارسة هذا الحق على أساس المساواة مع الآخرين، والعمل على إنهاء أشكال البيئات المقيّدة والعازلة واستبدالها بخدمات مجتمعية دامجة بما في ذلك التخلص من المنظومة الإيوائية وتطوير بدائل تحقِّق الدمج المجتمعي والأسري الكامل للأشخاص ذوي الإعاقة.

كما أن هذا الدليل يخاطب صانع القرار عن طريق عرض عدد من الموجِّهات العملية على مستوى السياسات والممارسات لتهيئة بيئة تشريعية وممارساتية تعزِّز العيش المستقل وتساعد على استبدال المنظومات الإيوائية بخدمات مجتمعية دامجة للجميع بمن فيهم الأشخاص ذوو الإعاقة.

منهجية الإعداد

تنوّعت منهجية إعداد هذا الدليل من حيث الإطار النظري والتطبيق العملي وانقسمت على النحو الآتي:

  1. شكَّل استقراء بعض الممارسات النموذجية في عدد من الدول التي تتشابه في سياقاتها مع عدد من دول المنطقة عنصراً من العناصر الجوهرية في منهجية إعداد هذا الدليل، إضافة إلى المراجعة التحليلية للأدبيات المقارنة في مجال العيش المستقل والنصوص ذات الصلة في الاتفاقية وكذلك في تشريعات عدد من الدول العربية والأجنبية التي تناولت حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، فضلاً عن مراجعة وتحليل أدبيات المناصَرة في سياق تعزيز العيش المستقل لبيان ما يمكن لمنظمات الأشخاص ذوي الإعاقة ومنظمات المجتمع المدني بوجه عام القيام به في هذا الصدد.
  2. أما في عرض المحتوى المعرفي، فقد انقسمت فصول هذا الدليل إلى جزأين: يستعرض الجزء الأول محتوى الفصل عن طريق طرح أسئلة وأجوبة تبيِّن المفاهيم والمعلومات والبيانات التي يتناولها الفصل. أما الجزء الثاني، فيتضمن تمارين تساعد على ترسيخ الجوانب الأبرز من محتوى الفصل وتقيس مدى وصول المعلومة بشكل صحيح للمتدربين والمتدربات عن طريق مجموعات عمل تجيب على أسئلة محدَّدة أو دراسات حالة أو لعب أدوار وغيرها من الأساليب التدريبية.