مقـدمة

إدخال الأطفال والبالغين ذوي الإعاقة مؤسسات الرعاية الإيوائية هو مشكلة شائعة في العالم، بما في ذلك في الاتحاد الأوروبي. وللبلدان الأوروبية، بما فيها الدول التي تؤلّف الاتحاد الأوروبي، تاريخ طويل في إدخال الأشخاص ذوي الإعاقة مؤسسات الرعاية، وتستمر هذه الممارسة، إلى حدّ ما، حتى يومنا هذا. وعلى مدى العقدين الماضيين، يبدو أن بلدان شرق وجنوب شرق أوروبا كانت هي التي تتعرض، في الغالب، لتمحيص وسائل الإعلام والوكالات الدولية المكثف ونقدها بسبب هذه الممارسة. وسبب التركيز على هذه البلدان هو أن المرافق فيها تعاني من ظروف مادية مقلقة، ويعاني نزلاؤها من معاملة تبلغ أحياناً حد المعاملة غير الإنسانية والمهينة، بل حدّ التعذيب. لكن، وبالمقابل، بقيت دول أوروبية أخرى بعيدة عن الرقابة على الرغم من أنها تسجل معدلات مرتفعة جداً للإدخال في مؤسسات الرعاية الإيوائية. على سبيل المثال، سجّلت هولندا وفرنسا والنمسا أعلى معدلات إدخال الأطفال لمؤسسات الرعاية الإيوائية في العالم، وكان عدد كبير من هؤلاء الأطفال من ذوي الاعاقة[1].

وأبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في عام 2009 ومن ثمّ دخلت حيّز التنفيذ في كانون الثاني/يناير 2011. إلاّ أنّ الانضمام إلى هذه المعاهدة لم يكن كغيرها من المعاهدات التي انضمّ إليها الاتحاد الأوروبي في تاريخه، فهي الاتفاقية الوحيدة التي انضمّ إليها الاتحاد (وغيره من المنظمات الإقليمية) من بين معاهدات الأمم المتحدة لحقوق الانسان. وبالانضمام إلى اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، أصبحت هذه الأخيرة جزءاً من قانون الاتحاد الأوروبي وملزمة لجميع مؤسساته وفقاً للمادة 216 (2) من المعاهدة المنظّمة لعمل الاتحاد الأوروبي. وقررت محكمة العدل الأوروبية في سوابقها القانونية الأولى بأنّ هذه الاتفاقيات الدولية تشكّل جزءاً لا يتجزأ من النظام القانوني في المجتمع[2].

والسؤال الأساسي الذي يتناوله هذا البحث هو: كيف أثّرت اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة على تشريعات الاتحاد الأوروبي؟ وكيف فسّرت مؤسساته الاتفاقية وطبّقت نصوصها المتعلقة بالحقّ في العيش المستقل والإدماج في المجتمع؟ يبرز هذا السؤال على خلفية التعارُض الملحوظ بين قواعد اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وإجراءات الاتحاد الأوروبي، فقد قدّمت المفوضية الأوروبية دعماً مالياً لبناء مؤسسات الرعاية للإقامة الطويلة وتوسيعها في الدول الأعضاء، ما يشكّل مخالفة لاتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وتفاسير اللجنة المعنية بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (المشار إليها لاحقاً بلجنة اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة) بشأن واجبات الدول إزاء المادة 19 من الاتفاقية. واستخدمت دول أعضاء عدة في الاتحاد الأوروبي، من ضمنها النمسا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا وإستونيا وليتوانيا، تمويلاً من الاتحاد الأوروبي لتطوير مؤسسات الرعاية الإيوائية في إجراء يتعارض من إنفاذ الحقّ في العيش المستقل في المجتمع. وقد بررت المفوضية الأوروبية هذه الإجراءات مراراً، في حين أعربت لجنة اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة عن قلقها إزاء هذه الإجراءات، داعية هنغاريا إلى إعادة توجيه التمويل من الاتحاد الأوروبي لخدمات العيش المستقل بدلاً من استثمارها في الإقامة الطويلة في مؤسسات الرعاية الإيوائية[3]. وأبدت بعض منظمات الأشخاص ذوي الإعاقة والمنظمات غير الحكومية المعنية بالمناصرة معارضة شديدة لإجراءات المفوضية الأوروبية، وأقامت دعاوى قانونية بهذا الشأن.

ونظرية القانون الدولي التي يرتكز عليها هذا التقرير تتماهى مع نهج مدرسة العمليات القانونية العابرة للحدود الوطنية[4]، الذي يركّز على العمليات التي تعتمدها الدول للامتثال للقانون الدولي، وأسباب امتثالها ذلك. ويعتبر، في هذا النَّهج، واقع صُنع التشريعات الدولية، وتفسيرها، وترسيخها داخل الدول من جراء تعدُّد الجهات الفاعلة. ويشدّد، بشكل خاص، على أهمية المنظمات غير الحكومية و(منظمات الأشخاص ذوي الإعاقة) بوصفها رائدة في إرساء الأعراف العابرة للحدود[5]. ومما يدل على هذه الأهمية الأثر الذي أوقعه حراك منظمات الأشخاص ذوي الإعاقة والمنظمات غير الحكومية في القواعد المعتمَدة في الاتحاد الأوروبي، من خلال جهود المناصرة والدعاوى القانونية الرامية إلى تحسين القانون والممارسات المتعلقة بالعيش المستقل في المجتمع (وتجدر الإشارة، في هذا الإطار، إلى أن هذه المنظمات كانت قد أثرت على مضمون اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة نفسها). وتُعتبر، في هذا النَّهج أيضاً، العوامل المؤثرة في صُنع القرار، كما في مقاربة المفوضية الأوروبية للشكاوى بشأن استخدام الصناديق الأوروبية الهيكلية والاستثمارية، وتعتبر أيضاً الاستراتيجيات التي تتبعها الجهات ذات الصلة استجابة لهذه الشكاوى، بما في ذلك "أساليب التجنب"[6].

ويُعتبر التفسير القانوني عاملاً هاماً من أجل "الترسيخ الداخلي" للقانون الدولي[7]، ولذلك تركز هذه الورقة البحثية على تفاسير لجنة اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والمفوضية الأوروبية للمواد الحاسمة من الاتفاقية. ويبحث الكاتب في التوجُّهات والاستراتيجيات المستقبلية المحتمَلة التي قد تحسِّن تنفيذ اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في الاتحاد الأوروبي، كما ينطلق من القواعد المتصلة بتفسير المعاهدات، المنصوص عليها في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، التي استندت إليها المفوضية الأوروبية في ردّها على الشكاوى، لإجراء تحليل نقدي لإجراءات المفوضية الأوروبية وتفاسيرها لاتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. فوفقاً للمادة 31 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، فإن العناصر الثلاثة الأساسية لتفسير المعاهدة هي: الصياغة، والسياق، والغرض والغاية. وقد تُعَدُّ الأعمال التحضيرية التي تجرى خلال مرحلة صياغة المعاهدة بمثابة أداة تكميلية (المادة 32 من الاتفاقية). وعند الاقتضاء، ينبغي لأي تفسير أن يأخذ في الاعتبار، وعلى النحو الملائم، العناصر الثلاثة الأساسية والوسائل التكميلية كافة. وكذلك يجب على تفسير معاهدةٍ لحقوق الإنسان ضمان فعالية القاعدة، أي أن تكون قادرة على ضمان تمتُّع الأفراد فعلياً بحقوق الإنسان ضمن ظروف معينة[8]. ويجري تقييم تفسير المفوضية الأوروبية لاتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة على ضوء القواعد والمبادئ تلك، كما يُستخدم نَهجٌ تقييمي لمضمون تشريعات الاتحاد الأوروبي الثانوية ذات الصلة إزاء معاهدة حقوق الإنسان الدولية الأعلى أهميةً لتقييم مدى توافقه معها.

تقتصر هذه الورقة البحثية على تحليل القوانين التشريعية والسوابق القانونية باستثناء الوثائق المتعلقة بسياسة الاتحاد الأوروبي. على الرغم من أن هذه الوثائق غير ملزمة، إلا أنها قد تؤثر كثيراً على تطبيق قانون الاتحاد الأوروبي وتنفيذ اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في هذا القانون. علاوة على ذلك، لا تتناول هذه الورقة البحثية تأثير هذه الاتفاقية على قانون مكافحة التمييز في الاتحاد الأوروبي، الذي لربما يحمل أهمية عند التصدي لممارسات إدخال الأشخاص ذوي الإعاقة مؤسسات الرعاية الإيوائية وفصلهم عن بقية المجتمع.


[1] Manfred Nowak, “UN Global Study on Children Deprived of Liberty” (Geneva: United Nations publication, 2019), pp. 190, 503.

[2  Case 181/73, Haegeman v. Belgian State, ECLI:EU:C:1974:41, (1974), para. 5.

[3] “Inquiry Concerning Hungary under Article 6 of the Optional Protocol to the Convention: Report of the Committee”, ed. Committee on the Rights of Persons with Disabilities (2020), para. 112 (e).

[4]  Harold Hongju Koh, “The 1994 Roscoe Pound Lecture: Transnational Legal Process”, Nebraska Law Review 75, No. 1 (1996); Harold Hongju Koh, “Is There a ‘New’ New Haven School of International Law?”, The Yale Journal of International Law 32, No. 2 (2007); Andrea Bianchi, “The New Haven School”, in International Law Theories: An Inquiry into Different Ways of Thinking (Oxford University Press, 2016).

[5] Harold Hongju Koh, “The 1998 Frankel Lecture: Bringing International Law Home”, Houston Law Review 35 (1998), p. 647.

[6] Mario Mendez, The Legal Effects of EU Agreements (Oxford University Press, 2013).

[7] Koh, “Is There a ‘New’ New Haven School of International Law?”.

[8]  Başak Çalı, “Specialized Rules of Treaty Interpretation: Human Rights”, in The Oxford Guide to Treaties, ed. Duncan B. Hollis (Oxford University Press, 2020).