جدول المحتويات:
مقدمة (1)
في عام 2006، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (المشار إليها فيما يلي باتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة أو الاتفاقية)، وهي تمثل أول معاهدة شاملة لحقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين. واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة هي اتفاق واسع النطاق يحدد المبادئ الرئيسية التي تستنير بها عمليات السياسة العامة،[2] فضلاً عن توجيه الالتزامات الحكومية على مختلف الصُعُد، ابتداءً من إمكانية اللجوء إلى القضاء والعيش باستقلالية، إلى التعليم والرعاية الصحية. ومع انقضاء عشر سنوات على اعتمادها، لا تزال اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة تحظى بتأييد واسع النطاق، وهو ما يدل عليه إقرار 178[3] طرفاً الاتفاقية رسمياً حتى الآن، أو انضمامهم إليها، أو تصديقهم عليها.[4]
وقد تمخّض عن اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة سلسلة من التغييرات غير المسبوقة في مجال الإعاقة. أولاً، نصّت الاتفاقية على نموذج الإعاقة القائم على الحقوق الاجتماعية وحقوق الإنسان، مما يمثل تحولاً مفاهيمياً واضحاً عن النهج الطبي التقليدي. وفي إطار هذا النموذج الأخير، كان التركيز يقتصر على العاهات التي يعاني منها الأشخاص، واستهدفت الأعمال الخيرية الأشخاص ذوي الإعاقة باعتبارهم فئة تحتاج إلى رعاية خاصة. أما بعد أن تم إضفاء الطابع الرسمي على النموذج الاجتماعي والنموذج القائم على حقوق الإنسان، باتت تُفهم الإعاقة على أنها التفاعل بين حالات إعاقة الأشخاص وبيئاتهم، حيث تشكّل حالة الشخص عامل من عدة عوامل مسببة للإعاقة. وعلاوة على ذلك، بات يتعين تعزيز الحق في الوصول والإدماج على قدم المساواة وحماية هذا الحق على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والمادي.
ثانياً، رفعت اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة معيار مستوى المشاركة. فلم يحدث قط من قبل أن انخرط المجتمع المدني لتلك الدرجة في صياغة معاهدة لحقوق الإنسان.[5] ونتيجة لهذه المشاركة، تتضمن اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة عدة مواد تشدد على التزام الدول الأطراف بضمان مشاركة الأشخاص ذوي الإعاقة والمنظمات التي تمثلهم في عمليات وضع السياسات وصنع القرار. كما أدت عملية التفاوض بشأن اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة إلى صياغة شعار "لا غنى عنا في المسائل التي تخصّنا" (Nothing about us without us)، والذي أصبح اليوم شعاراً للحركة العالمية للإعاقة ولعملية وضع السياسات المتعلقة بالإعاقة بوجه عام.
وأتت الاتفاقية بتغيير ثالث جدير بالملاحظة يتعلق بطرائق تنفيذها ورصدها. وبعبارة أخرى، فإن اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لا توضح الأمور التي ينبغي للدول الأطراف أن تفعلها فيما يتعلق بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة فحسب، بل أيضاً كيف ينبغي للدول أن تتصرف بشأنها. وعلى وجه التحديد، توجّه المادة 33 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة الدول الأطراف إلى ما يلي: (أ) تعيين جهات تنسيق، والنظر في إنشاء آلية تنسيق للمسائل المتصلة بتنفيذ اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة؛ (ب) تعيين أو إنشاء إطار عمل لتعزيز اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وحمايتها ورصد تنفيذها؛ (ج) ضمان المشاركة الكاملة للمجتمع المدني، ولا سيما الأشخاص ذوي الإعاقة، في عمليات الرصد. وتبين المادة 33 بوضوح أن أكثر ما يميز هذه الاتفاقية إيلاءها الاهتمام لمسألة العمليات. وإن أطر العمل المنشأة بموجب المادة 33 ذات صلة أيضاً بالبروتوكول الاختياري للاتفاقية، الذي يتضمن مبادئ توجيهية حول رفع الشكاوى إلى اللجنة وبدء التحقيقات في الانتهاكات التي ترتكبها الدول الأطراف.
إن إدراج المادة 33 في الاتفاقية هام لأسباب عديدة. أولاً، إن الهيئات الدولية المنشأة بموجب المعاهدات والمسؤولة عن استلام تقارير الدول الأطراف تميل إلى أن تكون بعيدة كل البعد عن ما يحدث فعلياً على أرض الواقع، وكثيراً ما تكون مواردها البشرية والمالية محدودة.[6] وينطبق هذا بصفة خاصة على اللجنة المعنية بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (المشار إليها فيما يلي باسم لجنة حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة أو اللجنة)، فهي تضطلع بمهمة في غاية الضخامة تتلخص في رصد العدد الكبير من البلدان التي صدقت في تعاقب سريع جداً على الاتفاقية. ومن ثم، فإن المؤسسات الوطنية تؤدي دوراً هاماً في سد الفجوة القائمة بين المستويين الدولي والقطري. ثانياً، إن اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وثيقةٌ واسعة النطاق وشاملة لعدة قطاعات، وهي تقتضي تفاعل معظم الوكالات الحكومية، إن لم يكن جميعها. ومن ثم، فإن وجود أطر مؤسسية راسخة يساعد على ضمان فعالية عمليتي التنفيذ والرصد واتساقهما، بدلاً من الاعتماد على تدابير مجزأة أو منعزلة، وهو ما هيمن على وضع السياسات المتعلقة بالإعاقة في الماضي.[7] وأخيراً، تقدم المادة 33 طرحاً غير مسبوق، إذ أنها المرة الأولى التي تتضمن فيها معاهدة دولية لحقوق الإنسان توجيهات بشأن أطر التنفيذ والرصد المحلية، باستثناء، جزئياً، البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.[8]
ونظراً للطابع غير المسبوق للمادة 33، تجد الدول الأطراف نفسها مضطرة إلى خوض ميادين لم ترتدها من قبل لدى نقل أحكام الاتفاقية من الورق إلى الممارسة العملية. ولا يزال صانعو السياسات والخبراء يدرسون هذه المادة ويتشاورون في ما يترتب عليها من التزامات على أرض الواقع. وفي الوقت نفسه، تبحث الحكومات عن طرق مبتكرة لتكييف متطلبات المادة 33 مع هياكلها الحكومية وسياقاتها الوطنية المحددة، بالتوازي مع قلّة المبادئ التوجيهية أو التجارب السابقة التي يمكن الاستفادة منها. وبعد أن تم اعتماد خطة التنمية المستدامة لعام 2030 في عام 2015، بات على الدول الأطراف الآن أن تكفل أيضاً ملاءمة أطرها المؤسسية لدعم إدماج الأشخاص ذوي الإعاقة، وتعمل في ذات الوقت على تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وهذه الأمور مجتمعة تعني أن تنفيذ المادة 33 مسألة أساسية، ولكنها صعبة.
وتهدف هذه الورقة إلى تسليط الضوء على هذه المسألة المعقدة، محددةً السياق الذي يتم من خلاله تنفيذ المادة 33 في المنطقة العربية. وستوضح الورقة المتطلبات والخيارات المتاحة للدول عند وضع أطرها المؤسسية أو تعزيز القائم منها، وستستكشف مدى ملاءمتها للسياق الإقليمي العربي، مستندة إلى المؤلفات الأكاديمية، وتقارير الأمم المتحدة، وتقارير الدول الأطراف المقدمة إلى لجنة اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والبيانات المتوفرة من خلال خبراء الإعاقة العاملين في الحكومات العربية. كما ستحلل الورقة البُنى المؤسسية الحالية للحكومات العربية، وتنظر في السُبُل التي يمكن بها للحكومات أن تواصل تحسين هذه البُنى بما يتماشى مع المادة 33.
وتتألف هذه الدراسة من أربعة أقسام. يستعرض أوّلها الأحكام الرئيسية الثلاثة للمادة 33 موضحاً هيكل وتكوين ووظائف الأطر المؤسسية الرئيسية لتنفيذ الاتفاقية ورصدها. وتورد الدراسة، حيثما أمكن، أمثلة من بلدان أخرى في جميع أنحاء العالم تبيّن تنفيذ المادة 33 على أرض الواقع. ويستعرض القسم الثاني الحالة الراهنة لتنفيذ المادة 33 في المنطقة العربية. وتستخدم المؤلفتان المعلومات التي جُمعت من استبيان أرسل إلى الدول الأعضاء في الإسكوا لإعطاء صورة عن الاتجاهات الإقليمية الرئيسية فيما يتعلق بالبُنى المؤسسية للبلدان العربية ذات الصلة بالمادة 33. وأخيراً، تضيء الورقة على الفُرَص المرتبطة بتنفيذ المادة 33 التي قد تسنح للدول العربية، وما يترتب عليها من تحديات محتملة، وتُختتم ببعض التوصيات للمضي قدماً في تحسين امتثال الحكومات للاتفاقية.
(1) كتبت هذه الورقة ألكسندرا هاينجو جاكسون وأنجيلا زيتلر (Alexandra Heinsjo Jackson and Angela Zettler )، الموظفتان المعاونتان للشؤون الاجتماعية في قسم التنمية الاجتماعية الشاملة في شعبة التنمية الاجتماعية، مع إضافات موضوعية قدمتها مادلين كريفنز (Madeleine Cravens) وزينة عازار (Zeina Azar)، استناداً إلى بحوث ومسودة أولية أعدتها سوميا شاستري (Soumya Shastri). وقد أُعدت الورقة تحت الإشراف المباشر لجيزيلا ناوك (Gisela Nauk)، رئيسة قسم التنمية الاجتماعية الشاملة. والآراء الواردة فيها ترجع للمؤلفتين ولا تعبّر بالضرورة عن آراء الإسكوا.
[2] مثل عدم التمييز واحترام الكرامة المتأصلة.
[3] اعتباراً من 20 أيار/مايو 2019.
[4] United Nations Treaty Collection, 2019a.
[5] Guernsey et al, 2007, p. 4.
[6] De Beco and Hoefmans, 2013, p. 19.
[7] De Beco and Hoefmans, 2013, p. 20.
[8] يقتضي البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب من الدول الأطراف إنشاء آليات وقائية وطنية، ولكن نطاق هذه الآليات محدود مقارنةً بالأطر المبينة في المادة 33 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. انظر: دراسة مواضيعية أعدتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان بشأن هيكل ودور الآليات الوطنية المعنية بتنفيذ اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة ورصد تنفيذها (A/HRC/13/29)، الصفحة 5.