باء. تحليل موقف المفوضية الأوروبية من الصناديق الأوروبية الهيكلية والاستثمارية والانتقال من العيش في مؤسسات الرعاية إلى العيش المستقل في المجتمع

وتجدر الإشارة إلى أن المفوضية الأوروبية تناولت، في عام 2018 وعلى الصعيد الداخلي، الطابع النظامي لاستخدام هذه الصناديق للاستثمار في مؤسسات الرعاية للإقامة الطويلة الأجل[1]. وبحسب الدائرة القانونية التابعة لِرئيس المفوضية، برزت الحاجة إلى آراء ترتكز إلى الخبرة بعدما أبلغت الإدارة العامة للسياسات الإقليمية الحضرية الدول الأعضاء عن أن دعم الصناديق للإقامة الطويلة الأجل في مؤسسات الرعاية الإيوائية محظور بموجب الإطار القانوني، وبشكل خاص بموجب المادة 19 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. وقد اعترضت بعض الدول الأعضاء على هذا الرأي[2]. واستوضح كل من الإدارة العامة للسياسات الإقليمية الحضرية والمديرية العامة للعمل والشؤون الاجتماعية والإدماج الاجتماعي من الدائرة القانونية عما إذا كان استخدام الصناديق الأوروبية الهيكلية والاستثمارية غير قانوني في ضوء الشرط المسبق المواضيعي التاسع والذي يُبين بصورة واضحة أن الرجوع إلى الصندوق الأوروبي للتنمية الإقليمية ضروري للانتقال من الخدمات المؤسسية إلى الخدمات المجتمعية، وعما إذا كان الاتحاد الأوروبي ملزماً قانوناً وكذلك الدول الأعضاء بالتعليق العام 5 للجنة اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (المشار إليه فيما بعد بالتعليق العام 5)، وعما إذا كان ممكناً للمفوضية الأوروبية و/أو إلزامياً عليها أن تفرض العقوبات في حال انتهاك الحقوق الأساسية في المؤسسات التي تلقت دعماً من الصناديق[3].

وقد سأل كلٌّ من هاتَين الجهتَين عما إذا كان التعليق العام 5 وثيقة ملزمة قانوناً، إذ أكدت لجنة اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في تلك الوثيقة أن أي مؤسسة إيوائية للرعاية، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، غير مقبولة بموجب هذه الاتفاقية. أما بالنسبة إلى الأطفال ذوي الإعاقة، اعتبرت اللجنة أن دُور الرعاية الإيوائية الصغيرة الحجم "خطيرة بشكل خاص"[4]. فكان من غير المفاجئ أن الدائرة القانونية أجابت بأن التعليق العام 5 ليس وثيقة ملزمة قانوناً، كما أفادت بأن تفسير المعاهدات الدولية يجرى وفقاً للمادتين 30 و31 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات وأنه "لا يمكن للجنة الاتفاقية تغيير التفسير القانوني للاتفاقية وذلك وفقاً لأحكام اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات"[5]. وأشارت الدائرة القانونية إلى أن تفسير لجنة اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة للمادة 19 قد لا يتماشى مع قواعد التفسير العامة لاتفاقية فيينا، إلا أنها أقرت بأن التعليق العام 5 يتمتع "بثقل سياسي لا بد من أن يُؤخذ في الاعتبار عند تنفيذ المعاهدة"[6]. وبذلك، تكون الدائرة القانونية قد أقرَّت ضمناً بأن الدول الأعضاء والمفوضية الأوروبية لا تعمل وفقاً لأهداف السياسة العامة التي يخلص إليها عبر التفسير ذي الحجية لاتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة الذي تقدمت به لجنة المعاهدة، على الرغم من أنه ما ثمة التزام قانوني. ومن الممكن أن تكون صياغة السؤال هذه قد حالت دون تدخل الدائرة القانونية حيث ركزت على مسألة لا يشوبها الشكّ وهي الطابع غير الملزم لأي تعليق عام صادر عن هيئة معنية بمعاهدة لحقوق الإنسان.

وعلى الرغم من ذلك، فمجرد أن الدائرة القانونية شكَّكت في تفسير قدمته اللجنة المعنية بالاتفاقية يشكِّل وجهاً مثيراً للاهتمام من رأي الدائرة. وفي عمل آخر خضع لاستعراض الأقران، اضطلع الكاتب بتفسير كلٍّ من المادتين 19 و23 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة إضافةً إلى التعليق العام 5 للجنة هذه الاتفاقية، وذلك من خلال اعتماد الإطار التفسيري لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات[7]. وقد لاحظ الكاتب أن التفسير الذي قدّمته اللجنة يتماشى في الواقع مع اتفاقية فيينا ومع الممارسة الشائعة للتفاسير التي عرضتها الهيئات الإقليمية والدولية لحقوق الإنسان بشأن الوثائق المتعلقة بهذه الحقوق. وباختصار، تركز لجنة اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (بالإضافة إلى سائر أصحاب المصلحة كمنظمات الأشخاص ذوي الإعاقة، ومنظمات المجتمع المدني والباحثين) على صلاحية مواد اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة بما يتماشى مع المسوغات الأساسية للاتفاقية نفسها أولاً، ومن ثم للمادتين 19 و23 من الاتفاقية[8]. ولعل نَهج الصلاحية في تفسير المعاهدة هو اللبِنة الأساس لتفسير حقوق الإنسان، وهو يستند إلى قاعدة في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات تنصُّ على ضرورة تفسير المعاهدات بحُسن نية. وبالتالي، ولأن نَهج الصلاحيات متجذرٌ في قواعد تفسير المعاهدات العامة لاتفاقية فيينا فإن التفسير الذي قدّمته لجنة اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في التعليق العام 5 هو تفسيرٌ صحيح من وجهة نظر كل من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات والممارسة التفسيرية الشائعة. ولكن، لا بد من أن يأخذ المفسرون حذرهم من اللجوء إلى تفاسير شاملة وإيجاد التزامات جديدة للأطراف، الأمر الذي لم يُطبق في تفسير لجنة اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. وعلى الرغم من ذلك، فقد تؤدي دينامية معاهدات حقوق الإنسان إلى توسيع المحاكم لنطاق الالتزامات بهدف تكييف المعاهدات مع الظروف الحالية.

شاركت الدائرة القانونية في تفسير اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة واللائحة التنظيمية المتعلّقة بالأحكام المشتركة، وذلك لتحديد ما إذا كان من الضروري اعتبار الاستثمارات في مؤسسات الإقامة الطويلة الأجل غير قانونية، مستندةً في ذلك إلى غياب الحظر المطلق للاستثمارات في الرعاية الطويلة الأجل في كل من اللائحة التنظيمية المتعلّقة بالأحكام المشتركة والمادة 19 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. وفي غياب هذا الحظر، رأت الدائرة القانونية أنه لا بد من "الحفاظ على المؤسسات الإيوائية الطويلة الأجل في حالة جيدة" ما دام الأشخاص ذوو الإعاقة ينتقلون إليها[9]. وقد جرت المحاججة بهذه المسألة في ضوء حقيقة أن الانتقال من العيش المؤسسي إلى العيش المجتمعي والعيش في كنف الأسرة أو العيش المستقل هو عملية لن تتحقق في ليلةٍ وضحاها. ولدى الدائرة القانونية وجهة نظر مقْنِعة تتسق إلى حد كبير مع وجهات نظر لجنة اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والعديد من منظمات الأشخاص ذوي الإعاقة والدول الأطراف: فيُمكن الاستثمار في المؤسسات ضمن عملية الانتقال من المؤسسات إلى المجتمع إذا كان ذلك الاستثمار سيضمن إبقاء المقِيمين في هذه المؤسسات في مأمن وصحة جيدة قبل إتمام عملية الانتقال[10]. لكن هذا الاستثمار لا ينبغي أن يتضمن التوسع عن طريق بناء مؤسسات جديدة تماماً أو عن طريق زيادة قدرات المؤسسات القائمة لأن إجراءات من هذه القبيل تتعارض بطبيعتها مع هدف الانتقال من المؤسسات إلى المجتمع[11]. وحتى الصيانة الشاملة للمؤسسات ينطوي على إمكانية عرقلة الاستثمار في عملية الانتقال من المؤسسات إلى المجتمع، إذ تستنفد هذه الصيانة موارد مالية يمكن استخدامها في تحسين ظروف العيش المستقل في المجتمع وفي كنف الأسرة. تُعرِّض عمليات الصيانة الشاملة والمكلِفة أيضاً عملية الانتقال من المؤسسات إلى المجتمع للخطر، وتدل على إمكانية استخدام المرافق هذه لعقود قادمة، ما يتعارض مع أهداف هذه العملية.

وبدون التوسع أكثر في بيان مسألة توسيع المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة، استنتجت الدائرة القانونية عن طريق القياس بأنه يجب السماح بالاستثمار في مؤسسات الرعاية الإيوائية "إذ من شأنها تحقيق الأهداف المواضيعية للمادة 9 من اللائحة التنظيمية المتعلقة بالأحكام المشتركة وكذلك الهدف العام للمادة 19 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة"[12]. وقد تكون هذه هي المغالطة المنطقية الأساسية في هذا التحليل، إذ اتبعت الدائرة القانونية قياساً غير ملائم لإضفاء الشرعية على الاستثمارات في بناء مؤسسات جديدة وتوسيع المؤسسات القائمة مع إسناد الحجة على وجهة نظر أن تبقى المؤسسات هذه في "حالة جيدة" ما دام الأشخاص ذوو الإعاقة يُقِيمون فيها. وثمة اختلاف بيِّنٍ بين إبقاء المؤسسات القائمة في حالة لائقة وبين الاستثمار في توسيع مؤسسات جديدة وبنائها.

ثانياً، ووفقاً لما صرحت به الدائرة القانونية، فثمة شكوك حول مساهمة الاستثمارات في مؤسسات الرعاية الإيوائية الطويلة الأجل في تحقيق أهداف المادة 9 من اللائحة التنظيمية المتعلقة بالأحكام المشتركة والمادة 19 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة[13]. وهاتان المادتان تهدفان بوضوح إلى تعزيز الإدماج الاجتماعي عن طريق الاستثمار في هياكل أساسية صحية واجتماعية، وذلك من أجل الانتقال من الخدمات المؤسسية إلى الخدمات المجتمعية (الهدف المواضيعي 9 المتعلق بالصندوق الأوروبي للتنمية الإقليمية)، وعن طريق ضمان حقّ الأشخاص ذوي الإعاقة في اختيار موضع معيشتهم ومع من يعيشون، وعدم إجبارهم على أي من ترتيبات العيش، وضمان حصولهم على الخدمات المتخصصة التي تدعم العيش في المجتمع، بالإضافة إلى الخدمات العامة المتاحة، وكل ذلك بهدف تحقيق العيش المستقل في المجتمع وفي كنف الأسرة[14]. وعلى نحو مماثل، فإن المادة 23، الفقرة 5 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي لم تجرِ الإشارة إليها لا في اللائحةُ التنظيمية المتعلّقة بالأحكام المشتركة ولا في رأي الدائرة القانونية، تهدف هي أيضاً إلى ضمان عيش الأطفال ذوي الإعاقة ضمن نماذج من الرعاية البديلة القائمة على الأسرة، وليس في مؤسسات الرعاية الإيوائية. لذلك، فمن الصعب أن يؤدي أي استثمار في مؤسسات الرعاية الإيوائية إلى تحقيق هذه الحقوق والالتزامات وأهداف السياسات.

وأما معيار الحفاظ على هذه المؤسسات في حالة جيدة طالما يعيش فيها الأشخاص ذوو الإعاقة، فليس مصدره المادة 19 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، أو المادة 23 من هذه الاتفاقية أو المادة 9 من اللائحة التنظيمية المتعلقة بالأحكام المشتركة، وإنما الحقّ في الحياة والبقاء، والتحرُّر من المعاملة غير الإنسانية والمُهِينة، والحقّ في الحصول على الأمان الشخصي والحقّ في الوصول إلى أعلى مستوى صحي يمكن بلوغه، أي مستوى المعيشة المناسب الذي كرسته الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية حقوق الطفل ومعاهدات أخرى. وبالتالي، أخطأت الدائرة القانونية حين أعلنت أن الاستثمارات في مؤسسات الرعاية الإيوائية للإقامة الطويلة تخدم الأهداف المنصوص عليها من أجل ذوي الإعاقة بالغين كانوا أو أطفال.

ختمت الدائرة القانونية في البرلمان الأوروبي رأيها ببيانٍ ينصُّ على أن الدول الأعضاء يمكنها تقديم تمويل مشترك مع الصناديق الأوروبية الهيكلية والاستثمارية لمؤسسات الرعاية الإيوائية الطويلة الأجل، ولكن يجب أن تحرز تقدماً بشكلٍ عام في تأمين ترتيبات العيش المستقل والانتقال من مؤسسة الرعاية الإيوائية إلى مجتمع[15]. وبعبارة أخرى، ينص البيان على أنه لا حظر على استثمار الصناديق الأوروبية الهيكلية والاستثمارية في الإقامة الطويلة في مؤسسات الرعاية الإيوائية، وبأن التقدم في الانتقال من المؤسسات إلى المجتمع ليس التزاماً قانونياً بل هو مطلب. وتختلف هذه النتيجة عن وجهة نظر لجنة اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة حول الانتقال من المؤسسات إلى المجتمع وعن وجهة نظر منظمات الأشخاص ذوي الإعاقة ومنظمات المجتمع المدني التي حاولت تحدي المفوضية الأوروبية والدول الأعضاء في استخدامها للصناديق الأوروبية الهيكلية والاستثمارية من أجل هذا النوع من العناية.

 

[1] “Opinion of the Legal Service”, ed. European Commission (2018).

[2] المرجع نفسه.

[3] المرجع نفسه.

[4] “General Comment No. 5 (2017) on Living Independently and Being Included in the Community: Committee on the Rights of Persons with Disabilities” (2017), para. 16 (c).

[5] “Opinion of the Legal Service”, p. 4.

[6] المرجع نفسه، ص. 2.

[7] Lazar Stefanović, Trans-Institutionalisation of Disabled People. A Critical Appraisal of Some Deinstitutionalisation Strategies in South Africa and Europe, vol. 5, Yearbook Protection of Human Rights (Provincial Ombudsman and the Institute for Criminological and Sociological Research Belgrade, 2022).

[8] المرجع نفسه.، ص. 555.

[9] “Opinion of the Legal Service”, p. 2.

[10] “General Comment No. 5 (2017) on Living Independently and Being Included in the Community: Committee on the Rights of Persons with Disabilities”, para. 49.

[11] المرجع نفسه.

[12] “Opinion of the Legal Service”, p. 4.

[13] المرجع نفسه، ص. 3.

[14] “Convention on the Rights of Persons with Disabilities, UNTS, 2515, P. 3”, art. 19.

[15] “Opinion of the Legal Service”, p. 6.